آخر الأحداث والمستجدات
من ذاكرة قبائل جهة فاس مكناس..
تستوطن عدة قبائل منطقة مقدمة جبال الريف بدءاً من تازة مرورا بتاونات وزرهون ووزان والعرائش وشفشاون..، ومن هذه القبائل نجد البرانس بشمال تازة على حدود بلاد جبالة، وهي من قبائل المغرب الشهيرة التي تضم عدة فرق وفخدات تستوطن مجالاً يجمع بين تل وجبل تخترقه مجاري مائية من اشهرها واد لحضر، الذي تذكره مصادر تاريخية في علاقته بوادي ايناون كرافد له. وكانت قبيلة البرانس بحكم ارتباطها بممر تازة ضمن اهتمامات الكيانات السياسية التي حكمت البلاد منذ العصر الوسيط، مما جعلها حاضرة في كثير من التطورات والاحداث منذ العصر الوسيط. ولهذه القبيلة ينتمي عدد من الفقهاء والعلماء نشأة وداراً وأصولاً، كما بالنسبة للقطب الصوفي الشهير أحمد زروق. وكانت قبيلة البرانس منذ القدم وبحكم أصولها الاجتماعية بشغف للحرية وبحس وطني، فمنذ بداية التوغل الاستعماري الفرنسي وقبل فرض الحماية على البلاد كانت في طليعة المقاومة، ولم تتمكن القوات الفرنسية بلوغ مجالها الا بعد احتلالها لتازة وتمكنها من ممره الاستراتيجي. ونظرا لما تعرضت له من تضييق من قبل القوات الفرنسية واثناء هجوم محمد بن عبد الكريم الخطابي على المنطقة السلطانية عبر ترابها، انضمت القبيلة لقوات الريف أواسط عشرينات القرن الماضي مما أقلق فرنسا وزعزع أمنها بالمنطقة فكادت أن تسحب قواتها من تازة وممرها.
والحديث عن قبائل مقدمة جبال الريف كما بالنسبة لقبيلة البرانس، يدفع بالاشارة الى أن هناك أبحاث ودراسات عدة قاربت زمن ومجال البادية المغربية ومن خلالها القبائل على تباين مشاهدها وتوزعها. منها من تناولت قضايا ذات طبيعة محورية تخص هذا المكون الهام من مكونات المجال المغربي كوثيقة حية وذاكرة في علاقته بتاريخ البلاد المعاصر، في أفق قراءة وفهم أهم لوقائعها واسهاماتها ضمن تطور تاريخها العام. ومن هنا ما بات من نصوص ضمن ذخيرة خزانة تاريخية وطنية، هي نتاج ما حصل من انفتاح لباحثين ومؤرخين على هذه التيمة منذ فترة وقد جاء متعدداً في زوايا نظرته ومقاربته. ولا شك أن الباحث في تاريخ البادية المغربية وقبائلها، يجد نفسه بين غموض لا يزال يلف جوانب من مكوناتها واسهاماتها وحضورها في تاريخ المغرب، علماً أنه في حدود معينة هو تاريخ بادية لِما لعبه مجالها بكل مقوماته من دور هام فيه.
سياق نستحضر فيه بادية مقدمة جبال الريف، لقراءة مساهمة هذا المجال الجبلي في مقاومة الاحتلال الاستعماري خلال فترة الحماية، من خلال كتاب "تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي" لـ ذ.عبد السلام انويكًة، وقد صدر عن منشورات ومضة بطنجة ضمن طبعة أولى في قطع متوسط بصورة مدمجة بواجهته عن الأرشيف الفرنسي، تخص جانباً من ثكنة عسكرية واحدة من أهم معالم القوات الفرنسية العمرانية الكولونيالية بشمال تازة ومقدمة الريف، حيث مجال قبيلة البرانس وبلدة "تايناست" غير بعيد حدود ما عُرف على عهد الحماية ب" المنطقة الخليفية".
الكتاب يدخل ضمن مجال البحث حول البادية المغربية ومساهمتها في مقاومة الاحتلال الأجنبي، وقد جاء بتقديم رزين للدكتور محمد الزرهوني رحمه الله ضمنه إشارات دقيقة بعيون باحث أكاديمي، استحضر فيه سياق العمل وما تأسس عليه من ببيبليوغرافيا وأرشيف. ولإبراز ما طبع المنطقة من تطورات وأحداث منذ عقد الحماية حتى سنوات الكفاح الوطني من أجل استقلال المغرب، توزع الكتاب على ثلاث محاور في اطار زمن منهجي بسطت لمحطات من تاريخ بادية تازة حيث قبيلة البرانس بتلال مقدمة جبال الريف.
وفي عمل غير مسبوق انصب الكتاب على دراسة قبيلة البرانس من حيث خصائص موطنها وسمات مجتمعها ومكونات أنشطتها، كذا تفاعلاتها مع محيطها منذ القدم. مع تركيزه على فترة حرجة ودقيقة من تاريخها تلك المتعلقة بانخراطها في مواجهة التوغل الاستعماري الفرنسي بالمنطقة بين سنتي 1912- 1956م، وما واكب ذلك من مد وجزر في علاقة مع مكون ممر تازة القبلي المحلي ومن شد وجذب بينها وبين فلول القوات العسكرية الاستعمارية منذ احتلال تازة، فضلاً عن تضحيات جسيمة فردية وجماعية قدمتها قبيلة البرانس في سبيل استقلال البلاد.
وبقدر ما شكل كتاب "تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي" قيمة مضافة لفائدة تاريخ المنطقة وباديتها وتاريخ قبائل مقدمة جبال الريف وشمال المغرب عموماً، بقدر ما يعد اضافة للخزانة التاريخية وإسهاماً على قدر من الفائدة في حقل التاريخ المحلي أورد حوله الدكتور محمد الزرهوني رحمه الله في تقديمه: "بقدر ما لهذا التخصص من أهمية بالغة في سبيل إماطة اللثام عن قضايا وإشكاليات وتجارب بشرية مُموقعة في المجال ومُمتدة في الزمان، تخص مدنا وقرى وتجمعات بشرية ظلت مجهولة أو مغمورة لضعف الاهتمام بها أو لتهميشها… بقدر ما ينطوي على تحديات جمة على مستوى التنقيب والتأليف لِما يعتري ذلك من صعاب، تتعلق بندرة الوثائق أو قلة فرص الحصول عليها لأسباب متعددة. منها على الخصوص ضعف حركة التدوين وسيادة الثقافة الشفاهية، والميل إلى التكتم عليها أو إخفائها. لذلك فإن الباحث الراغب في اقتحام هذا الفرع من التاريخ، يجد نفسه أحيانا أمام مغامرة تتطلب منه الصبر والتؤدة والمكابدة وسعة الصدر. لعله يجمع شذرات متناثرة من المعلومات والموارد تسعفه لتحقيق مبتغاه، دون أن تشفي فضوله الفكري بالمستوى المطلوب وتروي غليله العلمي بالكيفية المتوخاة. والواقع، أن مختلف هذه النقائص لم تثن عزائم ثلة من الفاعلين والباحثين عن الاضطلاع بهذه المهمة العلمية المجدية، فعمدوا إلى اقتحام عرين التاريخ المحلي، لدوافع ذاتية أو موضوعية كل حسب موقعه ووضعه ومبتغاه، واستطاعوا بفضل انخراطهم البيِّن أن يدلوا بدولهم في هذا الشأن، متجشمين عناء الصعاب ومقارعين ثقل المشاق”.
ويعد كتاب "تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي" في محوره المخصص للشق الفزيائي، بمثابة جولة في جغرافيا قبيلة البرانس التي تتميز بواقع ومجال طبيعي معقد ومتنوع، فرضته وعورة التضاريس الجبلية وقساوة المناخ واتساع الرقعة وصعوبة المواصلات. فضلاً عن واقع عزلة نسبية في علاقة بمحيطه وبخاصة من جهة الشمال حيث مقدمة جبال الريف، المجال الذي جابه صاحب المؤلف لإلتقاط كلمات أو جمل أو شظايا رواية بهذا المكان أو ذاك ومن هذا المقاوم أو ذاك ممن لا يزالون على قيد الحياة.
ولا شك أن صاحب الكتاب بذل جهداً كبيراً وهو يخوض لجة البحث، حول هذه الفترة التاريخية الهامة من تاريخ مغرب الحماية وبهذه الرقعة الجبلية من الوطن. بالنظر لضعف المادة المصدرية التي لا تتجاوز في الغالب الأعم ما خلفته الادارة الاستعمارية من وثائق ومستندات، وبعض ما ورد في حواشي دراسات أكاديمية. ولعله ما دفع صاحب المؤلف لاعتماد الرواية الشفهية في توثيقه لتاريخ مقاومة قبيلة البرانس للاستعمار الفرنسي، من أجل سد الفراغات التي تقفز عليها المصادر والمراجع المتوفرة، وهو دليل على أهمية طرح سؤال مدى صدقية ومصداقية الخلاصات والاستنتاجات التي يتم الاهتداء إليها بالاعتماد فقط على المادة المصدرية الأجنبية.
لقد جاء كتاب "تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي"، غنياً بمادة توثيقية مستقاة من رواة عايشوا الأحداث التي تناولها. قصد انتقاء الأهم وفرز الغث من السمين وغربلة المنحاز من الرواية عن الموضوعي، ولانتقاء الروايات التي يمكن أن تقدم رؤية متوازنة لِما جرى من أحداث وتطورات خلال هذه الفترة الدقيقة من تاريخ البلاد.
ففي مائة وسبعين صفحة من قطع متوسط، بسط الكتاب لجانب من تاريخ قبيلة البرانس المعاصر، عبر ثلاثة فصول تحدث الأول منها عن القبيلة في امتداداها المجالي وأصول تسميتها وتركيبتها ونمط عيشها وتاريخها. منذ فترة الأدارسة حتى ظهور طلائع القوات الاستعمارية الفرنسية الغازية الأولى، على مشارف حدود القبيلة. أما الفصل الثاني فقد تناول مقاومة قبيلة البرانس للاحتلال الفرنسي تدريجياً، مع التعريف برموزها الذين حملوا مشعل المقاومة ما بين 1914 - 1956. ويأتي الفصل الثالث من الكتاب ليبرز رد فعل قبيلة البرانس على نفي السلطان محمد بن يوسف من طرف سلطات الحماية، من خلال اعلانها النفير في صفوف أبنائها لاستنفارهم وتعبئتهم، في معترك المقاومة المسلحة التي لم تضع أوزارها إلا بإعلان استقلال المغرب.
ونظراً لِما طبع كتاب "تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي"، من جهد ومبادرة وشجاعة أدبية استهدفت رصد ثقافة تاريخية وطنية وتوثيقها وابرازها للأجيال، وابراز ما أسهم به السلف من تضحيات وما كان عليه من وطنية وحب وطن ودفاع عنه، فهو يشكل قيمة مضافة هامة لمكتبة تاريخ البادية المغربية المعاصر ومن خلالها لبادية وقبائل مقدمة جبال الريف. ولعل مثل هذه المؤلفات والأعمال العلمية حول تاريخ بلادنا الوطني الذي ساهمت فيه البادية والمدينة على حد سواء بأساليب مختلفة، هي مكونات أساسية لرأسمالنا الرمزي الذي يجسد غنى وثراء بلادنا وثروتها اللامادية وتنوعها وعمقها كما كانت عليه عبر تاريخها.
رغم أهمية ما تراكم من أبحاث ودراسات حول أحداث الفترة الاستعمارية وذاكرة المقاومة المغربية بالمدن والبوادي، لا تزال هناك جوانب مغمورة بحاجة لمزيد من الجهد البحثي، خاصة منها ما يتعلق بالبادية وحضورها في هذه الملحمة الانتقالية من تاريخ بلادنا المعاصر. على أساس ما كانت عليه البادية المغربية كمكون مجالي وبشري وثقافي من إسهام في رسم مسار تاريخ هذه الفترة، والتي يبقى إلتفات الباحثين والمؤرخين اليها في أعمالهم ليس سوى ابراز لصفحات وطنية خالدة ولإسهامات رجال وتضحيات من أجل الوطن.
الكاتب : | عبد السلام انويكًة |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2020-04-10 17:40:13 |